صدرالدين أمين رسام العوالم الخرافية من كركوك إلى العالم الجديد
عندما تنبثق الألوان من عزلة الفنان
فيصل عبد الحسن - الرباط
معرض الفنان العراقي صدر الدين أمين الأخير في قاعة مكتبة لانكستر العامة، بينسلفانيا، في الولايات المتحدة قبل فترة قصيرة نقل لزائري معرضه، عبر لوحاته المعروضة دأبه المستمر على تعميق تجربته في الرسم البدائي، التي بدأها في العراق منذ معرضه الجماعي الأول في مركز الفنون خلال مهرجان الواسطي ببغداد عام 1989وأكدها فيما بعد في العديد من المعارض الجماعية التي شارك فيها، وكذلك معارضه الفردية داخل وخارج العراق.
وقد أظهرت تجربته الفنية الفريدة فيما رسمه من لوحات طوال عمره الفني، مدى العزلة النفسية التي عاشها الفنان في وطنه، وحاول أن يصنع من عزلته تلك لوحات تحاكي ما رسمه الأطفال وما فكروا به، وما عاشوه أيضا من أحلام وكوابيس، وما تخيلوه من حيوانات أسطورية، وأفكار طريفة للتعبيرعن فرحهم، وأملهم بتحقيق ما يرغبون في تحقيقه، من خلال أبتكارهم ألعابا وأشكالا في غاية الطرافة، والإبداع.
أزمات نفسية
الكتابة عن تجربة صدر الدين أمين الفنية لا يمكن أن تحاط بعدد قليل من الصفحات، فالكتابة عن رسمه تحيلك فورا إلى علوم شتى وتجارب إنسانية غنية، وفنون شتى، فهي تجربة أطرها صانعها بثقافة موسوعية عن علم النفس والفلسفة، وثقافة فنية متراكمة، ودربة ومهارات على طرائق الرسم، وأستفادة مما تم أبتكاره خلال أربعة قرون من تأريخ الفن التشكيلي في العالم، وقد أعطى نتائج مثمرة أنغماسه العميق في عمله الفني، الذي يشبه تصوف المتصوفين، الذين ينسون كل شيء غير ذلك الذي أعتقدوا أنهم خلقوا من أجله، ذكر الله تعالى وعبادته، وتنزيهه، وترديد صفاته وخصاله المجيدة، وتمجيد ما خلق من جليل صنعه سماوات وعوالم وكواكب ومجرات، أنه يحاول في كل لوحة من لوحاته عكس هذه العلاقة، ورسم المخطوط على اللوحة، وربطه بصريا بما عاشه الفنان من أزمات نفسية وشعورية، وحاول التعبير عنها، بالخطوط والألوان، والأصوات التي تأتيك عبر لوحاته، فثمة أصوات طفولية تتخيلها، وهي تناديك عبر كل لوحة ويخيل لك أنك تسمعها واضحة كلما أوغلت في التجوال في بستان لوحاته، أنها تنقل لك خوفها وفرحها وأملها بالمستقبل وهواجسها وريبتها مما يحيط بها من مخلوقات حية في هذا العالم الواسع.
رؤية بصرية
عالم صدر الدين أمين الفني عالم واسع كعالم الطفولة، وقد زينه بالكثير من خرافات الأهل وقصصهم الشعبية، وتجد فيه الموروثات الإسلامية واضحة، وبالذات تأثيرات رسم المنمنمات، وتزيين هوامش الكتب التراثية، وما تركه الأجداد في الكهوف من نقوش ورسومات، تظهر جانبا من ممارساتهم الحياتية والعقائدية، وكتاباتهم التصويرية، وفيها أيضا تجد ذلك التصدع الذي احدثته آلات ومبتكرات صناعية، فأحالت الحلم الطفولي إلى أستشراف مستقبلي لعوالم بعيدة عنا، وربما تقع في مجرات أخرى.
ومعظم لوحات الفنان لا تجد فيها مساحة خالية من الرسم، فهو يرسم كل جزء من لوحته، فتزدحم لوحته عادة بالرسومات، التي تظن في البداية أنها رسمت أعتباطيا، ولكن حالما تدقق النظر فيها، تجد أنها تتكامل لتكون رؤية بصرية جمالية متكاملة، وغالبا ما تكون موضوعاتها، رؤية الأشباح والأحلام، والسباحة في الفضاء، والسفر إلى عوالم ميتافزيقية لا يمكن تخيلها إلا عبر الحلم والخيال الطفولي، ولن نقول أن الفنان لم يتأثر برسامي المدرسة الوحشية، أو أنه لم يتمثل لوحات غيره من فناني المدرسة الدادائية والسريالية، ولكنه تمثلها بشكل مبدع وخلاق، فالرائي يرى خطوط شيغال وأحلامه وكوابيسه، وكذلك مخلوقات سلفادور دالي، الذي ربما يشبه فناننا من حيث الشعور بأنه نصف ميت، ونصف حي لكون والديه أطلقوا عليه أسم أبن لهم توفي قبل ثلاث سنوات من ولادته، وكون صدر الدين أمين ولد ليكون الولد الفنان الرابع بين ثلاثة أشقاء من الفنانين في عائلة كردية تعيش في كركوك، أو تأثيرات هنري ميشو وهو الأب الروحي للفن الفطري في الرسم العالمي، والكتابات الهيروغليفية القديمة، والوجوه السومرية والبابلية والأشورية.
رسام وحشي
أن علاقة الأخوة التي ربطته بفنانين، يتبارون بينهم لكي يكون كل واحد منهم الأهم في نظر العائلة، في عالم من العزلة خلقتها أسباب سياسية وأجتماعية، كون أحد اشقائه صعد إلى الجبل متمردا على سلطة الدولة، وتلك العزلة جعلته يلتقي بمثقفين عراقيين في مدينته كجليل القيسي، وغيره من الكتاب والمثقفين والفنانين في مدينة كركوك، وأن ينهل من الثقافة ما وسعه، وجعلته ظروف الحرب التي مرت في العراق في الثمانينات أن يترك دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد مكتفيا بسنة واحدة من التعليم في مدرجاتها، وقد حمل منها معه شهادة كبيرة ستبقى مؤثرة في روحه، وستمده بالكثير من الثقة فيما رسم ويرسم، وهي الشهادة التي تلقاها من أستاذه في الأكاديمية المرحوم الفنان محمد صبري، الذي نعته أمام الطلاب بأنه رسام وحشي نسبة إلى المدرسة الوحشية في الفن.
اللوحات التي رسمها الفنان أمين تعتبر من ناحية الحجم كبيرة نسبيا، فهي تتراوح بين 1.30 م في 1.1 م و1.1 في 9. م وهي بذلك تعرض جميع مهارات الفنان، وقدرته على رسم المتواليات البصرية، وخلق الرؤية الجمالية من خلال توزيع الألوان على مساحة اللوحة، وأتقان توزيع ثيمة كل لوحة في تراتيبية بصرية، وأحساس جمالي متميز، تشعر الطفل في داخل كل رائي بالفرح والحزن والغبطة والريبة والتوجس من القادم الغريب الذي لا نفهمه، ولا نعرف له مثيلا، أنه رسام العوالم الخرافية المتميز، القادم من مدينة كركوك ليواصل عمله الفني في العالم الجديد.
جريدة الزمان
13/12/12
No comments:
Post a Comment