صلابة الرسم ، في تجربة صدرالدين امين
بقلم : خالد خضير الصالحي
بينما كان الأسلوب العضوي لفنانين مثل ميرو وتانغي تومئ فيه الأشكال إيماءة طفيفة بشبه لأشياء حقيقية هي في العادة أجزاء من الجسد الإنساني... وهو أسلوب مثقل بالاستعارة والقرائن". (ادوارد لوسي سمث، الحركات الفنية بعد الحرب العالمية الثانية، بغداد 1995، ص 23)، وصنّف الرسم (التعبيري - التجريدي) إلى "نوعين من الرسم وليس نوعا واحدا، النوع الأول، الذي يمثله بولوك وفرانز كلاين ووليم دي كوننغ كانا يوليان اهتماما كبيرا للتشخيص. أما النوع الثاني الذي يمثله مارك روثكو فهو أكثر تجريدا وأكثر سكينة" (السابق، ص 33)، بينما اتبع هربرت ريد في كتابه (الفن والمجتمع) وبعض كتبه الأخرى تقسيما آخر لفن الرسم إلى :طبيعي وهندسي.
لقد جلب اهتمامي، في تجارب العديد من الرسامين التجريديين، وجود بنيتين متمايزتين للأشكال في لوحاتهم التجريدية هما : الأولى، بنية خطية صلبة (كاليغرافية)، ربما هي التي عناها ادوارد لسي سمث بـ(المظهر العظميّ) للتعبيرية الحديثة، ولا نعرف دقة الترجمة هنا، إلا أننا نعتقد انه يعني بها ربما رسوم (الحواف الصلبة)، والثانية، بنية لونية ضبابية محايثة.
صدر الدين أمين.. مشخصات معزولة بالخط الخارجي
إن بعض الرسامين العراقيين، وان لم يكونوا نحاتين بدرجة ما، فقد كانوا معنيين بقيم النحت وأهمها (الجوهر الصلب) الذي شكّل عنصرا مهما في بناء شق مهم من تجربة الرسم العراقية، وهو شق قائم على البحث في البنية الكاليغرافية (=الخطوطية =الجوهر الصلب) من خلال معالجة اللوحة معالجة مزدوجة، ومتعاقبة زمنيا أحيانا، معالجة تؤدي في النهاية إلى فصل مستويات اللوحة باعتبارها مؤلفة من مكونين او شريحتين هما: البنية اللونية الغائرة في الخطوط الخلفية للوحة، وتشكلها طبقة ضبابية من اللون يتمّ اشتغالها بلطف تقني غالبا، حتى لا يتغلب فيها عنصر أو لون على آخر، على أن تعقبها، بل فوقها، طبقة أخرى أحادية اللون، خشنة، وصلبة، وداكنة، وربما أحيانا سوداء فاحمة، أو غائرة منجزة بأداة حادة تحفر سطح اللوحة المطلي بمادة ناتئة، وهو ما نعنيه بالجوهر الصلب الذي يشكل ما يشبه (الهياكل العظمية) التي تستند إليها الأشكال، وهذا ما نجده في تجارب الرسامين: صدر الدين الأمين، وفاخر محمد، وتجربتي هناء مال الله وكريم رسن في مراحل سابقة، وكذلك تجارب متزايدة لخطاطين إيرانيين يشتغلون على خط الشكسته، فقد كان هؤلاء يبنون لوحاتهم من مستويين متراكبين رغم اختلاف أساليبهم وأشكالهم، إلا أن ما يجمع بينهم وجود هيكل بنائي خطي صلب (كونكريتي) ترتكز عليه الأشكال، كما هي عند الرسامة اللبنانية سلوى زيدان، أو يرتكز على الأشكال أو يحيطها مشكلا غلافا كغلاف الخلية الذي يحيطها، كما في الرسام العراقي المقيم في بنسلفانيا صدر الدين أمين، حيث كانت كائناته المغلقة تتخذ شكل (خلايا) مغلقة بجدار سميك أسود يحيطها كما تحيط الأسوارُ المدنَ، جدارا صلبا، داكنا وقاسيا كالقناع الحديدي الذي أطبق على رأس الأمير في فيلم القناع، فكانت، وهي محاطة بذلك الجدار السميك، تنخرط برقصة جنونية لشامانات وحيوانات ومخلوقات أسطورية، كلها تنخرط في تلك الرقصة السحرية التي انغمس في لعبتها الرسام صدر الدين أمين وصار مشاركا فيها، حشود من البشر الذين يرتدي بعضهم أقنعة، ويضعون قروناً كما كان القدماء يرسمون السحرة في كرنفالات تشترك فيها كائنات لا حصر لتنوعها، تؤكد نزوعها،او نزوع الشكل نحو أزله العلاماتي، الأشد بساطة من الناحية الشكلية والذي يختزلها إلى نظام بعدي يتجاوز الخط (كبعد واحد) ولا يصل إلى البعدين، لكنه لا يصل إلى حالة التشكل فهو محاولة للعودة إلى الوجود الجيني للشكل أو (الوجود الحجيري) لشكل الكائنات.
يستند صدر الدين أمين على (فهمه) لجوهر تمثيل المشخصات من خلال تواشج وسائل تعبير مختلفة معا، فهو يعيد اللوحة، في طياتها المتعددة، إلى مرحلة غائرة، كانت فيها فنون التصوير والرسم والنحت ما زالت مندمجة في أول ظهورها في فنون ما قبل التاريخ (فن الكهوف) وكان يصعب تحديد اجناسية الأعمال فيها، فقد أنجزت الأعمال بطريقة (حفر) الخطوط الخارجية الرئيسية السميكة للأشكال ثم إتمام اللوحة باعتبارها صورة باستخدام اللون، فقد كان صدر الدين، كسلفه فنان الكهوف، يركز على إظهار (الهيكل البنائي للأشكال) أو ما يسميه هنري جيمس (البلورة أو الجرثومة) ويسميه بيكاسو (علامة الشيء التي لا تمحى)، وهي ليست سوى تلك العلامة الممثلة بخط خارجي سميك فاحم؛ ويبدو أن كلا من هذين المستويين (يشتغل) بآليات توصيل بصرية تختلف عن الأخرى، وبذلك تبدو لوحات صدر الدين أمين وكأنها لوحة (مفروزة) لونيا إلى شريحتين تتم طباعتهما بمرحلتين متتابعتين، فتطبع اللونية منهما أولا، ومن ثم تطبع الشريحة الخطية السوداء فوقها دائما.
يبدو لي أن الرسام صدر الدين أمين لم يكن رساما (تجريديا) في أي وقت، فكل أشكاله إن هي إلا مرحلة من مراحل مضطردة لتبسيط أشكال المشخصات وصولا إلى (صورة) استوطنت ذاكرته عن ذلك المشخص، لذا كانت (فكرة الشيء) قد تركت في ذهنه، وفي لوحته أخيرا، وهو الأمر الأهم، أثرا لا يمكن محوه مهما أوغل صدر الدين باتجاه التجريد (=التبسيط)، فقد أوغل المشخص ذاته بعيدا في نفس (=ذاكرة) لوحة صدر الدين أمين، ولم تعد عمليات الكبح والتعديل والاسلبة والتشويه، وكل ما يطال ذلك المشخص، تؤثر في (البنية الجوهرية) للمشخص، وهذه ليست سوى بنية خطية كاليغرافية تشكلها الخطوط الأساسية التي تمثل (علامة الشيء) من خلال تحقق عنصرين هما أهم الصفات الأساسية للرسامين المخططين، وسبق لي أن وصفت بهما تخطيطات الرسام هاشم تايه وهما: القوة والبساطة في التكوين الخطي، فيبدو هؤلاء، ومنهم صدر الدين أمين، مؤمنين بما قاله وليم بليك مرة "أن القاعدة الذهبية والعظيمة للفن، والحياة معا، هي هذه: كلما كان الخط الحدودي أكثر بيانا، ووحدة، ووترية، ازداد العمل الفني تكاملا .. تخلّ عن هذا الخط، وستتخلى عن الحياة نفسها، ويعود كل شيء إلى الفوضى"، وتبدو لنا كلمة (الفوضى) العقدة التي يفزع منها صدر الدين أمين، فرغم كل ما يبدو في منجزه من سمات فوضوية، فان توكيده على السمات الخطية، في آخر مراحل انجاز اللوحة، من خلال خطوط خارجية سوداء سميكة، هو إجراء يعيد التوازن إلى لوحته ويعطيها جوهرا (مسيطرا عليه) من الناحية الشكلية على الأقل، فتبدو مشخصاته جواهر منفردة ومستقلة عن بعضها بعضا ومكتفية بذاتها وان التجاور الذي وضعه صدر الدين فيه لم يؤدّ بالضرورة إلى تواشج شكلي، أو موضوعاتي فكان استقلال مشخصاته حقيقة واقعة حتى النهاية وذلك راجع، في درجة كبيرة منه، إلى الخط الخارجي الأسود السميك الذي يحيط مشخصاته ويعزلها تماما عن العالم الخارجي وعن بعضها
جريدة المدى العراقية
العدد : 2548
07 /27/ 2012 : السنة